..ناس الغيوان... تجربة فكرية وفنية وانسانية راقية
العربي باطما.. صوت المقهورين في سنوات الجمر والرصاص
المخرج سكورسيزي: الغيوان الهموني احد افلامي
تكبير الصورة تم تعديل ابعاد هذه الصورة. انقر هنا لمعاينتها بأبعادها الأصلية.
2012/02/09
العرب اليوم - رسمي محاسنة
مرت
ذكرى وفاة الفنان المغربي العربي باطما نجم واحد مؤسسي فرقة الناس
الغيوان, المبدعين, فهو مؤلف الأغاني ومطرب الفرقة وكاتب سيناريو وممثل
تلفزيوني وسينمائي. هذه المواهب المتعددة رغم أنه لم يكمل تعليمه, لكنه خرج
الى فضاءات الحياة ليكون نموذجاً ابداعياً ومعبراً عن مرحلة مهمة من حياة
المغرب والأمة.
تمر الذكرى في السابع من شباط عندما ودّع احباب الغيوان
عريس الأغنية الغيوانية بعد حياة اختزلها في روايتين هي الرحيل والثانية
هي الألم وهي نوع من السيرة الانشطارية, التي امتزج فيها الخاص بالعام وبوح
شديد فيه صدمة شديدة وحساسية عالية, عن مسيرة تعرجت ما بين انكسارات
ونجاحات ونجومية,الى جانب تراث هائل من القصائد التي تضمنها مخطوط حوض
النعناع..
والحديث عن العربي باطما لا ينفصل ابداً عن الناس الغيوان
هذه الفرقة التي جاءت مع بداية السبعينيات, وفرقة بهذا الحجم من الحضور
والتأثير, لا بد من العودة الى الظروف التي احاطت بها والظرف السياسي
والاجتماعي والفني سواء على المستوى المحلي أو العالمي.
تلك المرحلة
كانت على الصعيد العالمي, مرحلة حراك استثنائي حيث صعود اليسار العالمي,
وثورة الطلاب في فرنسا والهيبز والتمرد على المؤسسات الإجتماعية والسياسية,
والتعليمية, وعلى كل القوالب الجامدة والنزوح نحو التحرر والانطلاق الى
أبعد الحدود.
أما على المستوى العربي, فقد كانت حالة من عدم اليقين بعد
هزيمة ,67 وصدمة الشباب العربي بالهزيمة التي أفاقوا عليها ومحاولة إعادة
التوازن والحسابات والتعامل مع الحقيقة الماثلة أمامهم.
أما في المغرب
العربي فقد كانت تلك هي سنوات الجمر والرصاص, حيث أشكال السلطة في أقسى
صورها من قمع وإقصاء وتهميش وتمايز وفساد وقهر ومؤامرات وحضور للمؤسسة
العسكرية وصراعاتها واستبداد السلطة الأمنية. كل ذلك وأكثر يشد الخناق على
روح الشعب الذي تم إقصاؤه وتغييبه, وكان الوضع أكثر إيلاماً لجيل دفع
الكثير في مقارعة الاستعمار, وهم أصحاب الاستقلال الذين دفعوا ضريبته,
وبدلاً من أن يقطفوا ثمرة هذا الاستقلال, فقد تقاسمته فئة السلطة والعسكر,
واداروا ظهورهم الى الشعب المنهك, وزادوا من القسوة عليه وفي فقره وإذلاله,
وغطوا على هيمنتهم وفسادهم بإطلاق يد البطش والترهيب..
النشأة
العربي
باطما ولد في عائلة معدمة, والده كان يعمل في سكة الحديد, وتنقلت
العائلة ما بين الصحراء واطراف المدينة الى أن استقرت في الحي المحمدي
أحد أكثر احياء الدار البيضاء فقراً, ولم ينتظم بالمدرسة, وفي ظل غياب
سلطة الأسرة و الأب, والفقر الشديد, وجد العربي نفسه في طريق المشاكسة
والجنوح وهو ما عبّر عنه بوضوح وشفافية في رواية الرحيل, لكنه لم يغب عن
الوعي, فقد كان يمنح نفسه وقتاً للتأمل والاعتكاف, ووجد في نفسه ميلاً نحو
التمثيل والغناء, فقد كان صوته قوياً وصداحاً, فانضم الى فرقة مسرحية,
وسافر الى باريس لكن الفرقة لم تجد النجاح المطلوب, وصاحب الفرقة لم يكن
يعطي العاملين معه حقوقهم, وانتهت مغامرة العربي في مسرح البلد بعد أن
ضمهم الطيب الصديقي واكتشفوا تأثير الأغنية على الجمهور فكان أن التقط
الراحل بوجميع الفكرة, وقرر إنشاء فرقة غنائية مستقلة, انضم اليها
العربي باطما ولم تكن الرؤية واضحة, حتى باختيار اسم الفرقة الى ان
استقروا على اسم الناس الغيوان
مجموعة من الشباب القادمين من فقر
الحي المحمدي من رائحة التراب من وجدان الناس, من وحي المعاناة والألم
والفقر, روحهم المتوثبة نحو الحرية والخلاص والإنحياز لبيئتهم واهلهم
وامهاتهم اللواتي تعلموا منهن الكثير من الغناء.
إن بوجميع والعربي
باطما وعلال وعمر السيد وغيرهم بالرغم من عدم حصولهم على مستويات تعليمية
عالية, إلا انهم كانت لديهم مرجعيات أمهاتهم والتراث المغربي الهائل الذي
يمثل عبد الرحمن المجذوب مصدراً رئيسياً, وله تلاميذ من المجاذيب
الممتدين عبر السنين, فكان إن ذهبت المجموعة الى المنبع الأصيل, بكل ما
يمثله من بساطة وعمق, والعذابات المتراكمة التي عبر عنها الوجدان
الشعبي,الى الدرجة التي جعلت المخرج العالمي الشهير مارتن سكورسيزي يقول:
لقد استلهمت فيلم السيد المسيح من موسيقى الغيوان, رغم انه لا يعرف
العربية, فكان المؤسس بو جميع هو الذي ينظم معظم الغناء, لكن السلطات لم
تحتمل وجوده, فكان موته المفاجئ والملتبس, ومن صدمة غياب بو جميع ظهر
العربي باطما ليتولى زمام الأمور, حيث أعاد إنتاج هذا الموروث بصياغة
صادقة ومعبرة, دون الوقوع في الخطابة السياسية أو التلون بأي من الوانها,
فقط كان الوطنالمغرب حاضراً, .
والوطن الكبير العربي كذلك, وحكما كانت
فلسطين حاضرة بقوة, القدس, صبرا وشاتيلا, والعراق, والهم العربي, وكان
صهيون يتردد ايضاً كون اليهود والصهيونية هم الشر والسوس الذي يعيق مسيرة
الامة.
العربي باطما ... كان يدرك كل هذا الجحيم الذي يدور حوله, فهو
الذي ولد في عهد الاحتلال الفرنسي, وتفتحت عيناه على ظلم السلطة وهو وبحكم
تكوينه شخصيته المتمردة كان صدى حقيقياً, لواقع مرير ولذلك فإنه من الظلم
ان نطلق على الناس الغيوان انهم كانو ظاهرة, او متطلبات مرحلة بل هم تعبير
حقيقي عن مرحلة كاملة من تاريخ المغرب والأمة. والذي يتابع الاغاني التي
أوجدت معاناة مع السلطات بسببها نجد ان كل اغنية هي بمثابة بيان احتجاجي.
وصرخة و لا كبيرة في وجه الظلم والفقر والاقصاء وبوح عن المكتوم في صدور
المقهورين و في اغنية فين غادي بي يا خويا صدى لاوجاع الغربة والحنين
وسؤال كبير عن الاهانات المتوالية التي يتعرض لها الانسان المغربي, وعن
الجثث التي تعود من البحر في رحلات التهريب والهروب الى شواطيء اوروبا. وفي
اغنية غير خذوني خطاب مباشر للجلاد الذي لا يرحم, وفي الصينية حنين
واستحضار لكل ما تحمله الصينية في الوجدان المغربي من دلالات لها علاقة
بالروح الناظمة للعلاقات الاجتماعية بكل دفئها وحميميتها ودلالات الانتقاء
لمجموعة من القيم داس عليها النظام وغيرها الكثير, ولكن لم يفقد الناس
الغيوان ايمانهم بالانسان وقدرته على العودة واستنهاض الهمة.
كان
انحياز الناس الغيوان واضحاً ومحسوماً في صف الغالبية الصامتة والمغلوب
على امرها فكانوا صوتهم في زمن الخوف, فهم القادمون اصلاً من رحم المعاناة
ومن بيوت الصفيح, وهم الذين وقفوا على اطراف المدينة يرقبون الظلم
الاجتماعي والتمييز الطبقي واحتكار السلطة والمال والقوة والعنف, وبالتالي
لم تكن لهم حساباتهم الخاصة, كانت وجهتهم هي عموم المقهورين المسورين بحضرة
الألم والمعاناة والعذاب.
وكان طبيعياً ان يكون هذا الصدى, وهذا الوصول
السريع الى وجدان الناس, وعقولهم, فالجماهير كانت تسمع ما هو مكتوم من
خلال موسيقى وغناء الفرقة, وكانوا هم من يمثلهم ويعبر عنهم, ويعرف احزانهم
واحلامهم وتطلعاتهم, ويعرف البؤس الذي يولد فيه الاطفال, وما سيؤولون اليه
في ظل غياب العدالة, وتكافؤ الفرص وسيادة شريعة القوة الظالمة.
وقد كان
البعد الديني واضحاً في اغاني الناس الغيوان وذلك ان التراث الغنائي
والموسيقي المغربي له مرجعياته الدينية, لاسباب كثيرة من ابتهالات وموشحات
ومدائح, لكن الغيوان لم يقدموا هذا الغناء بدلالاته الدينية او السياسية,
انما جاء منسجماً مع مكونات التراث الشعبي المغربي, فهو يحمل بعداً
ايمانياً من شأنه ان يعمل على تقوية النواة الصلبة في داخل الانسان التي
تعينه في مواجهة قسوة الحياة, وليس تغييباً له في عوالم الغيبيات السلبية.
تجربة انسانية
الناس الغيوان تجربة إنسانية وفنية وفكرية راقية, لا يمكن فصلها إطلاقاً
عن إرهاصات تلك المرحلة التي عاشها المغرب بعد الاستقلال, ولا عن مجمل
التحولات العالمية, حيث أطلق بو جميع رصاصة المخاض, وإن كانت ارتدت عليه
بموت ما يزال غامضاً ليكون واحداً من ضحايا احتقان النظام السياسي
والإضطراب والتوتر العالي الذي عاشه المجتمع الثقافي, ليأتي العربي باطما
ويبث الروح من جديد في الفرقة, وكأنه يتحدى ويقاتل في إنتاج غزير من
الأغاني التي أكدت البناء المتين للفكر الغيواني المنتمي لوجع الناس.
وباستعراض
للتجربة الغيوانية, فإنها ليست مجرد صدى وانما هي فكر مؤسس على تصحيح
المعادلة, فكان خطابها موجهاً الى كل الفئات وتحدت التابوهات السياسية في
موسيقاها ومفرداتها والحانها وبالتفاف الجماهير عليها, كانت بمثابة تعبير
عن نضال شعبي له أبعاده الوطنية والانسانية, فلم يتراجعوا عن خطوط النار,
لانهم أساساً لم يخونوا الطبقة التي جاءوا منها وينتمون إليها وبقوا على
وفائهم للانسان البسيط وهمومه وأحزانه, ولم يقعوا في غواية الشهرة والمال,
لان هدفهم الأسمى كان التعبير عن الناس في مواجهة قاسية لا تعرف التراجع.
لقد
كان المرحوم العربي باطما هو الروح التي ذابت احتراقاً, تأليفا وغناءً,
وإصرارا على تكريس معاني وقيم إنسانية ووطنية نبيلة, وهو البلبل الصداح
وعريس الأغنية الغيوانية تماهت الجماهير مع احساسه, وصوته القوي الشجي,
المليء بالهموم, لكنه أيضاً يفتح باب الأمل, مع موسيقى لم تكن بمعناها
الأكاديمي انما متناغمة مع الاحساس.
ومع موت العربي باطما في
(07/02/1997) يكون القنديل قد غادر الى حيث لا رجعة لكن قنديل الأمل
بالأجيال الجديدة وبالمستقبل الذي غنى له العربي في موال أغنية السقام ما
يزال حاضراً وما تزال أغاني من الناس الغيوان مرجعية وزاداً للناس البسطاء
والمثقفين انهم احباب الغيوان الذين غامروا بروح الشباب وتصدوا لمهمة
عظيمة وانتجوا هذا الفكر الراقي.
ونحن نستذكر العربي باطما استذكر لقائي
معه في بداية التسعينيات, وعتبه علينا هنا في الشرق العربي, لاننا لم
نبادر للتقدم باتجاه ثقافة المغرب العربي, رغم أن فلسطين والعرب حاضران
بقوة في غناء وموسيقى وفكر الناس الغيوان.
عليك الرحمة يا مجذوب
الغيوان, فأنت الآن الحاضر بقوة وشاهد على تنازل المثقف العربي عن دوره إلا
من رحم ربي, حيث الكثيرون أداروا ظهورهم لقضايا الأمة وللناس وفي غيابك
فقدت الجماهير الكثير من صوتها, ولم يعد للفقراء من يسمع صوتهم, او يعبر عن
واقعهم.
العربي باطما.. صوت المقهورين في سنوات الجمر والرصاص
المخرج سكورسيزي: الغيوان الهموني احد افلامي
تكبير الصورة تم تعديل ابعاد هذه الصورة. انقر هنا لمعاينتها بأبعادها الأصلية.
2012/02/09
العرب اليوم - رسمي محاسنة
مرت
ذكرى وفاة الفنان المغربي العربي باطما نجم واحد مؤسسي فرقة الناس
الغيوان, المبدعين, فهو مؤلف الأغاني ومطرب الفرقة وكاتب سيناريو وممثل
تلفزيوني وسينمائي. هذه المواهب المتعددة رغم أنه لم يكمل تعليمه, لكنه خرج
الى فضاءات الحياة ليكون نموذجاً ابداعياً ومعبراً عن مرحلة مهمة من حياة
المغرب والأمة.
تمر الذكرى في السابع من شباط عندما ودّع احباب الغيوان
عريس الأغنية الغيوانية بعد حياة اختزلها في روايتين هي الرحيل والثانية
هي الألم وهي نوع من السيرة الانشطارية, التي امتزج فيها الخاص بالعام وبوح
شديد فيه صدمة شديدة وحساسية عالية, عن مسيرة تعرجت ما بين انكسارات
ونجاحات ونجومية,الى جانب تراث هائل من القصائد التي تضمنها مخطوط حوض
النعناع..
والحديث عن العربي باطما لا ينفصل ابداً عن الناس الغيوان
هذه الفرقة التي جاءت مع بداية السبعينيات, وفرقة بهذا الحجم من الحضور
والتأثير, لا بد من العودة الى الظروف التي احاطت بها والظرف السياسي
والاجتماعي والفني سواء على المستوى المحلي أو العالمي.
تلك المرحلة
كانت على الصعيد العالمي, مرحلة حراك استثنائي حيث صعود اليسار العالمي,
وثورة الطلاب في فرنسا والهيبز والتمرد على المؤسسات الإجتماعية والسياسية,
والتعليمية, وعلى كل القوالب الجامدة والنزوح نحو التحرر والانطلاق الى
أبعد الحدود.
أما على المستوى العربي, فقد كانت حالة من عدم اليقين بعد
هزيمة ,67 وصدمة الشباب العربي بالهزيمة التي أفاقوا عليها ومحاولة إعادة
التوازن والحسابات والتعامل مع الحقيقة الماثلة أمامهم.
أما في المغرب
العربي فقد كانت تلك هي سنوات الجمر والرصاص, حيث أشكال السلطة في أقسى
صورها من قمع وإقصاء وتهميش وتمايز وفساد وقهر ومؤامرات وحضور للمؤسسة
العسكرية وصراعاتها واستبداد السلطة الأمنية. كل ذلك وأكثر يشد الخناق على
روح الشعب الذي تم إقصاؤه وتغييبه, وكان الوضع أكثر إيلاماً لجيل دفع
الكثير في مقارعة الاستعمار, وهم أصحاب الاستقلال الذين دفعوا ضريبته,
وبدلاً من أن يقطفوا ثمرة هذا الاستقلال, فقد تقاسمته فئة السلطة والعسكر,
واداروا ظهورهم الى الشعب المنهك, وزادوا من القسوة عليه وفي فقره وإذلاله,
وغطوا على هيمنتهم وفسادهم بإطلاق يد البطش والترهيب..
النشأة
العربي
باطما ولد في عائلة معدمة, والده كان يعمل في سكة الحديد, وتنقلت
العائلة ما بين الصحراء واطراف المدينة الى أن استقرت في الحي المحمدي
أحد أكثر احياء الدار البيضاء فقراً, ولم ينتظم بالمدرسة, وفي ظل غياب
سلطة الأسرة و الأب, والفقر الشديد, وجد العربي نفسه في طريق المشاكسة
والجنوح وهو ما عبّر عنه بوضوح وشفافية في رواية الرحيل, لكنه لم يغب عن
الوعي, فقد كان يمنح نفسه وقتاً للتأمل والاعتكاف, ووجد في نفسه ميلاً نحو
التمثيل والغناء, فقد كان صوته قوياً وصداحاً, فانضم الى فرقة مسرحية,
وسافر الى باريس لكن الفرقة لم تجد النجاح المطلوب, وصاحب الفرقة لم يكن
يعطي العاملين معه حقوقهم, وانتهت مغامرة العربي في مسرح البلد بعد أن
ضمهم الطيب الصديقي واكتشفوا تأثير الأغنية على الجمهور فكان أن التقط
الراحل بوجميع الفكرة, وقرر إنشاء فرقة غنائية مستقلة, انضم اليها
العربي باطما ولم تكن الرؤية واضحة, حتى باختيار اسم الفرقة الى ان
استقروا على اسم الناس الغيوان
مجموعة من الشباب القادمين من فقر
الحي المحمدي من رائحة التراب من وجدان الناس, من وحي المعاناة والألم
والفقر, روحهم المتوثبة نحو الحرية والخلاص والإنحياز لبيئتهم واهلهم
وامهاتهم اللواتي تعلموا منهن الكثير من الغناء.
إن بوجميع والعربي
باطما وعلال وعمر السيد وغيرهم بالرغم من عدم حصولهم على مستويات تعليمية
عالية, إلا انهم كانت لديهم مرجعيات أمهاتهم والتراث المغربي الهائل الذي
يمثل عبد الرحمن المجذوب مصدراً رئيسياً, وله تلاميذ من المجاذيب
الممتدين عبر السنين, فكان إن ذهبت المجموعة الى المنبع الأصيل, بكل ما
يمثله من بساطة وعمق, والعذابات المتراكمة التي عبر عنها الوجدان
الشعبي,الى الدرجة التي جعلت المخرج العالمي الشهير مارتن سكورسيزي يقول:
لقد استلهمت فيلم السيد المسيح من موسيقى الغيوان, رغم انه لا يعرف
العربية, فكان المؤسس بو جميع هو الذي ينظم معظم الغناء, لكن السلطات لم
تحتمل وجوده, فكان موته المفاجئ والملتبس, ومن صدمة غياب بو جميع ظهر
العربي باطما ليتولى زمام الأمور, حيث أعاد إنتاج هذا الموروث بصياغة
صادقة ومعبرة, دون الوقوع في الخطابة السياسية أو التلون بأي من الوانها,
فقط كان الوطنالمغرب حاضراً, .
والوطن الكبير العربي كذلك, وحكما كانت
فلسطين حاضرة بقوة, القدس, صبرا وشاتيلا, والعراق, والهم العربي, وكان
صهيون يتردد ايضاً كون اليهود والصهيونية هم الشر والسوس الذي يعيق مسيرة
الامة.
العربي باطما ... كان يدرك كل هذا الجحيم الذي يدور حوله, فهو
الذي ولد في عهد الاحتلال الفرنسي, وتفتحت عيناه على ظلم السلطة وهو وبحكم
تكوينه شخصيته المتمردة كان صدى حقيقياً, لواقع مرير ولذلك فإنه من الظلم
ان نطلق على الناس الغيوان انهم كانو ظاهرة, او متطلبات مرحلة بل هم تعبير
حقيقي عن مرحلة كاملة من تاريخ المغرب والأمة. والذي يتابع الاغاني التي
أوجدت معاناة مع السلطات بسببها نجد ان كل اغنية هي بمثابة بيان احتجاجي.
وصرخة و لا كبيرة في وجه الظلم والفقر والاقصاء وبوح عن المكتوم في صدور
المقهورين و في اغنية فين غادي بي يا خويا صدى لاوجاع الغربة والحنين
وسؤال كبير عن الاهانات المتوالية التي يتعرض لها الانسان المغربي, وعن
الجثث التي تعود من البحر في رحلات التهريب والهروب الى شواطيء اوروبا. وفي
اغنية غير خذوني خطاب مباشر للجلاد الذي لا يرحم, وفي الصينية حنين
واستحضار لكل ما تحمله الصينية في الوجدان المغربي من دلالات لها علاقة
بالروح الناظمة للعلاقات الاجتماعية بكل دفئها وحميميتها ودلالات الانتقاء
لمجموعة من القيم داس عليها النظام وغيرها الكثير, ولكن لم يفقد الناس
الغيوان ايمانهم بالانسان وقدرته على العودة واستنهاض الهمة.
كان
انحياز الناس الغيوان واضحاً ومحسوماً في صف الغالبية الصامتة والمغلوب
على امرها فكانوا صوتهم في زمن الخوف, فهم القادمون اصلاً من رحم المعاناة
ومن بيوت الصفيح, وهم الذين وقفوا على اطراف المدينة يرقبون الظلم
الاجتماعي والتمييز الطبقي واحتكار السلطة والمال والقوة والعنف, وبالتالي
لم تكن لهم حساباتهم الخاصة, كانت وجهتهم هي عموم المقهورين المسورين بحضرة
الألم والمعاناة والعذاب.
وكان طبيعياً ان يكون هذا الصدى, وهذا الوصول
السريع الى وجدان الناس, وعقولهم, فالجماهير كانت تسمع ما هو مكتوم من
خلال موسيقى وغناء الفرقة, وكانوا هم من يمثلهم ويعبر عنهم, ويعرف احزانهم
واحلامهم وتطلعاتهم, ويعرف البؤس الذي يولد فيه الاطفال, وما سيؤولون اليه
في ظل غياب العدالة, وتكافؤ الفرص وسيادة شريعة القوة الظالمة.
وقد كان
البعد الديني واضحاً في اغاني الناس الغيوان وذلك ان التراث الغنائي
والموسيقي المغربي له مرجعياته الدينية, لاسباب كثيرة من ابتهالات وموشحات
ومدائح, لكن الغيوان لم يقدموا هذا الغناء بدلالاته الدينية او السياسية,
انما جاء منسجماً مع مكونات التراث الشعبي المغربي, فهو يحمل بعداً
ايمانياً من شأنه ان يعمل على تقوية النواة الصلبة في داخل الانسان التي
تعينه في مواجهة قسوة الحياة, وليس تغييباً له في عوالم الغيبيات السلبية.
تجربة انسانية
الناس الغيوان تجربة إنسانية وفنية وفكرية راقية, لا يمكن فصلها إطلاقاً
عن إرهاصات تلك المرحلة التي عاشها المغرب بعد الاستقلال, ولا عن مجمل
التحولات العالمية, حيث أطلق بو جميع رصاصة المخاض, وإن كانت ارتدت عليه
بموت ما يزال غامضاً ليكون واحداً من ضحايا احتقان النظام السياسي
والإضطراب والتوتر العالي الذي عاشه المجتمع الثقافي, ليأتي العربي باطما
ويبث الروح من جديد في الفرقة, وكأنه يتحدى ويقاتل في إنتاج غزير من
الأغاني التي أكدت البناء المتين للفكر الغيواني المنتمي لوجع الناس.
وباستعراض
للتجربة الغيوانية, فإنها ليست مجرد صدى وانما هي فكر مؤسس على تصحيح
المعادلة, فكان خطابها موجهاً الى كل الفئات وتحدت التابوهات السياسية في
موسيقاها ومفرداتها والحانها وبالتفاف الجماهير عليها, كانت بمثابة تعبير
عن نضال شعبي له أبعاده الوطنية والانسانية, فلم يتراجعوا عن خطوط النار,
لانهم أساساً لم يخونوا الطبقة التي جاءوا منها وينتمون إليها وبقوا على
وفائهم للانسان البسيط وهمومه وأحزانه, ولم يقعوا في غواية الشهرة والمال,
لان هدفهم الأسمى كان التعبير عن الناس في مواجهة قاسية لا تعرف التراجع.
لقد
كان المرحوم العربي باطما هو الروح التي ذابت احتراقاً, تأليفا وغناءً,
وإصرارا على تكريس معاني وقيم إنسانية ووطنية نبيلة, وهو البلبل الصداح
وعريس الأغنية الغيوانية تماهت الجماهير مع احساسه, وصوته القوي الشجي,
المليء بالهموم, لكنه أيضاً يفتح باب الأمل, مع موسيقى لم تكن بمعناها
الأكاديمي انما متناغمة مع الاحساس.
ومع موت العربي باطما في
(07/02/1997) يكون القنديل قد غادر الى حيث لا رجعة لكن قنديل الأمل
بالأجيال الجديدة وبالمستقبل الذي غنى له العربي في موال أغنية السقام ما
يزال حاضراً وما تزال أغاني من الناس الغيوان مرجعية وزاداً للناس البسطاء
والمثقفين انهم احباب الغيوان الذين غامروا بروح الشباب وتصدوا لمهمة
عظيمة وانتجوا هذا الفكر الراقي.
ونحن نستذكر العربي باطما استذكر لقائي
معه في بداية التسعينيات, وعتبه علينا هنا في الشرق العربي, لاننا لم
نبادر للتقدم باتجاه ثقافة المغرب العربي, رغم أن فلسطين والعرب حاضران
بقوة في غناء وموسيقى وفكر الناس الغيوان.
عليك الرحمة يا مجذوب
الغيوان, فأنت الآن الحاضر بقوة وشاهد على تنازل المثقف العربي عن دوره إلا
من رحم ربي, حيث الكثيرون أداروا ظهورهم لقضايا الأمة وللناس وفي غيابك
فقدت الجماهير الكثير من صوتها, ولم يعد للفقراء من يسمع صوتهم, او يعبر عن
واقعهم.
2015-05-25, 10:55 pm من طرف سلطان
» نهفات
2015-05-09, 7:05 pm من طرف سلطان
» أعظم جنود الله
2015-05-09, 6:58 pm من طرف سلطان
» حياتك الدنيا ..هي هكذا
2015-05-09, 6:47 pm من طرف سلطان
» الوردة والفراشة
2015-05-09, 6:37 pm من طرف سلطان
» وفوق كل ذي علم عليم
2015-04-26, 10:19 pm من طرف سلطان
» عشاق الليل
2015-04-26, 9:58 pm من طرف سلطان
» عبد الرحمن الداخل وتاسيس الدولة الحديثة
2015-04-20, 11:02 pm من طرف سلطان
» اشتاقكم
2015-04-19, 9:47 pm من طرف سلطان
» التين ..... الفاكهة الكنز
2015-04-19, 9:33 pm من طرف سلطان